أولاً : هذا الكلام يَفتَقِر إلى التأصيل العلمي ..
وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول : أكثر ما يُخطئ الناس في التأويل والقياس .
وها هنا قياس مع النصّ ، والقياس مع النصّ باطل !
وقد قرّر الأئمة أن الأصول لا يُقاس بعضها على بعض .
قال الإمام القرطبي : الأصول لا يُرَدّ بعضها إلى بعض قياساً ، وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة ، وإنما تُرَدّ الفروع قياسا على الأصول .
فَزَكاة الفِطر أصل وليست فَرْعاً ، فالقياس هنا خاطئ من جهتين :
الأولى : وجود النصّ
الثانية : كون الْمَقِيس أصلاً ، وليس من باب " إلْحاقُ فَرْعٌ بأصْل " !
ثانياً : في المسألة نصّ صحيح صريح ، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير : على العبد والحرّ ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تُؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرَ بِزَكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير .
وحديث أبي سعيد رضي الله عنه
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : كُـنّا نُخْرِج زكاة الفطر صاعا من طعام ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من زبيب . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية للبخاري : قال : كُنا نُخْرِج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام .
فهذه الأحاديث صريحة في فَرْض رسول الله صلى الله عليه وسلم لزكاة الفِطر من الطّعام ، وأمره بذلك .
فهل يَصحّ القياس مع وجود النصّ الْجَليّ ؟!
لا يصحّ القياس عند جميع الأصوليين !
إذا فالقياس على زكاة المال قياس مع الفوارق ، ومع اختلال أركان القياس ، فسَقَط القياس .
وبقي الأصل ، وهو النصّ الصحيح الصريح في المسألة .
وإذا صحّ النص في المسألة ، فلا يَجوز العُدول عنه إلى غيره .
ومن ردّ النص الصحيح فإنه يُخشى عليه من الزيغ والفتنة !
قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
قال القرطبي : بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب ، ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره وتوعد . اهـ .
جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله ، فقال : قال رسول الله كذا ، فقال : أرأيت لو كان كذا ؟ قال الإمام مالك : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقال مالك : أو كلما جاء رجل أجدل من الآخر رُدّ ما أنزل جبريل على محمد ؟!
كما أن ردّ النصوص الصحيحة الصريحة ليس من شأن أهل الإيمان !
قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .
قال العلامة القاسمي في تفسيره " محاسِن التأويل " :
اعْلَم أن كل حديث صَحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن رواه جامِعو الصِّحاح ، أو صَحَّحَه مَن يُرْجَع إليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية ، أعْنِي قوله تعالى : (مِمَّا قَضَيْتَ) فحينئذ يَتعيّن على كل مؤمن بالله ورسوله الأخْذ به وقبوله ظاهراً وباطنا ، وإلا بأن الْتَمَس مخارِج لِردِّه أو تأويله ، بِخلاف ظاهره ، لِتَمذهُب تَقَلَّدَه ، وعَصَبيّة رُبِّـيَ عليها - كما هو شأن الْمُقَلِّدَة أعداء الحديث وأهله - فيَدخُل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية ، الذي تقشعّر له الجلود ، وتَرجف منه الأفئدة . اهـ .
واتّفَقَتْ كلمة الأئمة على ردّ أقوالهم إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى سُنّتِه
قال الشافعي في مسنده وفي الرسالة : أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل اليماني قال : حدثني بن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : من قُتِلَ له قتيل فهو بِخَير النَّظَرَين ؛ إن أحب أخذ العَقْل ، وإن أحب فَلَه القَوَد . فقال : أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري ، وصاح عليّ صياحا كثيراً ، ونال مَنِّي ! وقال : أُحَدِّثُك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول : تأخذ به ؟ نعم آخذ به ، وذلك الفَرْضُ عليّ وعلى مَن سَمِعَه ، إن الله عز وجل اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختار له على لسانه ، فعلى الخلق أن يَتَّبِعُوه طائعين أو داخرين ، لا مَخْرَج لِمُسْلِم من ذلك . قال : وما سكت عَنِّي حتى تمنيت أن يسكت !
وهذا واجب كل مسلم أن يُسلِّم للنصوص ، ويَنقاد لها .
قال العلامة الطيبي في شرح المشكاة - فيما نقله عنه القاسمي - : عَجبتُ ممن سُمِّي بالسُّنِّي ، إذا سمِع مِن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله رأي ، رَجّـح رأيه عليها ! واي فَرْق بينه وبين المبتدِع ؟! ... وها هو ابن عمر - وهو من أكابر الصحابة وفقهائها - كيف غضِب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهَجَر فلذة كبِدِه لِتلك الْهَنَة ؟ عِبرة لأولي الألباب . اهـ .
ثالثاً : ما أورده القائل بهذا القول من أقوال عن بعض الصحابة أو من بَعدهم ، ليست بِحجّة ، لأن قول الصحابي إنما يكون حجّة في حال عدم المخالَفة ، فإن الصحابي إذا خالَفَه غيره من الصحابة لزِم الترجيح بين أقوالهم من خلال مُرجِّحات خارجية - بسطها أهل العلم في واضعها - ، كما أن قول الصحابي حُجّة إذا لم يُخالِف النصّ .
ومُعارَضَة النصّ بِقول صحابي خَلل في الاستدلال !
كيف ؟
النص الثابت من سُنّته صلى الله عليه وسلم حُجّة بالإجماع ، والسُّنَّة هي المصدر الثاني للأدلّة ، بِلا خِلاف .
وقول الصحابي من الأدلّة المختَلَف فيها .
فإذا عُورِض الحديث الصحيح بِقول الصحابي كان هذا مُعارَضَة للدليل الذي لم يُختَلَف فيه بالذي اختُلِف فيه !
قال ابن القيم : ولا يُتْرَك الحديث الصحيح المعصوم لمخالَفَة رواية له ، فإن مخالفته ليست معصومة . اهـ .
فلا يُعارَض قول النبي صلى الله عليه وسلم بِقول غيره من البشر كائنا من كان ، ولو كان قول أبي بكر وعمر - وقد أُمِرنا بالاقتداء بهما - ولذا لما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - تمتع النبي صلى الله عليه وسلم - أي في الحج - فقال عروة بن الزبير : نـهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : ما يقول عُريّة ؟! قال : يقول : نـهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون . أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : نـهى أبو بكر وعمر . رواه الإمام أحمد وغيره .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس : إنه لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُنكِرون مُعارَضة النص بأقوالهم ، بل بأقوال آبائهم - وإن كانت لهم أقدام صِدق في الإسلام - فهذا ابن عمر يَترك قول أبيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما عُرِف عن ابن عمر رضي الله عنهما من بِـرِّه بأبيه رضي الله عنه .
ولقد سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج ، فأمَر بها ، فقيل له : إن أباك نَهَى عنها ! فقال : إن أبي لم يُرِد ما تقولون ، فلما أكثروا عليه ، قال : أفَرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تَتَّبِعُوا أم عُمر ؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : مع عِلْمِ الناس أن أبا بكر وعمر أعْلَم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس ، ولو فُتِح هذا الباب لَوَجَب أن يُعْرَض عن أمر الله ورسوله ، ويَبْقَى كل إمام في أتباعه بِمَنْزِلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته ، وهذا تبديل للدِّين يُشْبِه ما عاب الله به النصارى في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . اهـ .
وروى البيهقي في السنن الكبرى من طريق أبي غطفان أن ابن عباس كان يقول في الأصابع : عشر عشر ، فأرسل مروان إليه ، فقال : أتُفْتِي في الأصابع عشر عشر ، وقد بلغك عن عمر رضي الله عنه في الأصابع ، فقال ابن عباس : رَحِم الله عمر ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يُتَّبَع من قول عمر رضي الله عنه .
أما أقوال مَن بَعْد الصحابة - من التابعين فَمَنْ بَعدَهم - فليستْ حُجّة على الْخَلْق .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس أحد إلا يُؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم . رواه الطبراني في الكبير . وقال الهيثمي : ورجاله مُوَثَّقُون .
وقال مجاهد : ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يُؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري في قُرة العينين وأبو نعيم في الحلية .
واشتهر عن الإمام مالك قوله : كل أحد يُؤخَذ من قوله ويُترك إلاّ صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبد البرّ : فالغلط لا يَسْلَم منه أحد ، والكمال ليس لِمَخْلُوق ، وكل أحد يُؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال : وليس من العلماء أحد إلاّ وهو يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال في مسألة أخرى : ولم يُعَرِّجُوا على قول عمر وابن مسعود ، وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
وقال الإمام الذهبي : وكل إمام يُؤخذ من قوله ويُترك إلاّ إمام المتقين الصادق المصدوق الأمين المعصوم صلوات الله وسلامه عليه . فيا لله العجب ! من عَالِم يُقَلِّد دِينه إماما بَعَيْنِه في كل ما قال ، مع عِلمه بما يَرِد على مذهب إمامه من النصوص النبوية . فلا قوة إلا بالله . اهـ .
والخلاصة أن الحديث إذا صحّ فلا يجوز أن يُعارَض بقول أحد ، كائنا من كان .
ولا يُعدَل عن قوله صلى الله عليه وسلم إلى قول غيره ، ولا عن فِعله إلى فِعل غيره .
قال الإمام ابن خزيمة : ليس لأحَد قَول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر . اهـ .
ولم يصح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه أذِن في إخراج القيمة في صدقة الفِطر .
مع أنه عليه الصلاة والسلام ما خُيِّر بين أمرين إلاّ أَخَذَ أيْسَرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه . كما قالت عائشة رضي الله عنها . والحديث مُخرّج في الصحيحين .
والدراهم والدنانير معروفة في زمنه صلى الله عليه وسلم ، ولم يأذن بإخراج زكاة الفِطر منها ، فعُلِم أنه لو كان يجوز لأذِن فيه ولو لواحد من أصحابه .
ولا يُظنّ بالصحابة الكرام ولا بالأئمة الأعلام مُخالفة أمره مُخالَفة صريحة .
ومن وَقَعَتْ منه مُخالَفة للنص فهو معذور ، وبَسْطُ هذه الأعذار في رسالة " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام ابن تيمية .
والله تعالى أعلم .